حبة رمل - Zohra Benayad - E-Book

حبة رمل E-Book

Zohra Benayad

0,0

Beschreibung

في نهاية الثمانينيات وقد مضت 30 سنة من عمر استقلال الجزائر؛ ابتدأ الناس يعبرون عن خيبة أملهم في طريقة حكم البلاد. الراوية المسمّاة حادّة تعود بها الذاكرة لاحقا، عندما كانت تبلغ من العمر ثماني سنوات في تلك الحقبة المريرة. تحكي صمود والدتها المريضة ووالدها الذي صدمته بداية حياته الزوجية مع الفقر والرفض الاجتماعي والوفاة المأساوية لطفله البِكر، مما جعله يتحول إلى رجل قاس. تعيش حادّة مع إخوتها في جو عائلي لا يطاق بسبب المعاملة الجافّة للأب. في الوقت نفسه يتدهور الوضع في البلاد تدريجيا ليصل إلى ما أطلق عليه اسم العشرية السوداء 1992 -2002. تجنبت الراوية الخوض كثيرا في فظاعة تلك السنوات وقررت التركيز بشكل أساسي على وضعها العائلي الصعب. كبر الإخوة وبلغت حادّة سنّ المراهقة ودعتها الظروف للذهاب إلى الصحراء حيث نضجت تجربتها وتجلت لها آراء جديدة. تشبعت بالإرادة من أجل التغيير الذي يمس ذاتها ويمس مجتمعها من وراء ذلك. تعود بها الظروف إلى الشمال حيث إخوتها وحيث تلتقي بحبها الأول من جديد وتعود للدراسة والحياة الواعدة بالخير وخدمة المجتمع.

نبذة حول الكاتبة

بن عياد الزهراء من مواليد سنة 1956 بالقنادسة في الجنوب الغربي للجزائر. بعد الدراسة الابتدائية والثانوية في مدينة وهران تمّ حصولها على ليسانس بيولوجي في مدينة مستغانم. اشتغلت أستاذة تعليم متوسط ثم ثانوي لمادة العلوم الطبيعية. انتقلت للإقامة في فرنسا وبعد أن كبر أبناؤها حققت أمنيتها في متابعة الدراسة الأدبية عن طريق المراسلة. حصلت على البكالوريا في الأدب الفرنسي والتحقت بكلية اللغة والحضارة العربية في جامعة بوردو مونتين. بعد الحصول على الليسانس واصلت الدراسة وحصلت على ماستر2 في تاريخ الأندلس. وفي النهاية جعلت تكرس وقتها لشغفها بالكتابة.

Sie lesen das E-Book in den Legimi-Apps auf:

Android
iOS
von Legimi
zertifizierten E-Readern
Kindle™-E-Readern
(für ausgewählte Pakete)

Seitenzahl: 336

Veröffentlichungsjahr: 2024

Das E-Book (TTS) können Sie hören im Abo „Legimi Premium” in Legimi-Apps auf:

Android
iOS
Bewertungen
0,0
0
0
0
0
0
Mehr Informationen
Mehr Informationen
Legimi prüft nicht, ob Rezensionen von Nutzern stammen, die den betreffenden Titel tatsächlich gekauft oder gelesen/gehört haben. Wir entfernen aber gefälschte Rezensionen.


Ähnliche


Zohra Benayad

حبة رمل

© Lys Bleu Éditions – Zohra Benayad

ISBN :979-10-422-1624-5

Le code de la propriété intellectuelle n’autorisant aux termes des paragraphes 2 et 3 de l’article L.122-5, d’une part, que les copies ou reproductions strictement réservées à l’usage privé du copiste et non destinées à une utilisation collective et, d’autre part, sous réserve du nom de l’auteur et de la source, que les analyses et les courtes citations justifiées par le caractère critique, polémique, pédagogique, scientifique ou d’information, toute représentation ou reproduction intégrale ou partielle, faite sans le consentement de l’auteur ou de ses ayants droit ou ayants cause, est illicite (article L.122-4). Cette représentation ou reproduction, par quelque procédé que ce soit, constituerait donc une contrefaçon sanctionnée par les articles L.335-2 et suivants du Code de la propriété intellectuelle.

حبّة رمل

رواية

Cristal de sable ترجمة للنسخة الفرنسية :

لنفس الكاتبة

بن عياد الزهراء

تقديم

عندما بلَغَت بي القراءة الجملة الأخيرة من الرواية؛ " وحالا شعرت أنّني أحمل جسدا مليئا بالحيوية"، كانت قد مرت فترة طويلة على سرد حياة البطلة. هذه الحياة لم تكن حياة عادية. كانت هي حياة حادّة، الفتاة الصغيرة القادمة من الجنوب الجزائري. ظلّت الكاتبة متحفّظة نوعا ما بشيء من الكتمان طيلة الرواية، ولم تكن تسمح للقارئ بغير إطلالات محدّدة تبرز له من خلالها لمسات تصويرية للواقع المعاش. لم تكن تفرض وجودها أبدا، بل مثل الكاميرا تكتفي بالتقاط مشاهد من الحياة اليومية للمجتمع الجزائري، معتمدة في ذلك على ظروف العيش في الوسط المحيط بها من عائلات وأصدقاء، كل ذلك في مناخ اجتماعي وثقافي متوتر إلى حدّ ما. العلاقات الإنسانية للبطلة الشابة تبدو معقدة للغاية. كتابات الزهراء تتنقّل بين الفوضى الجيوسياسية وحياتها اليومية دون أن ينتابها أدنى شعور باليأس. ترسم جميع المشاهد بكلمات مختارة وتعبيرات غالبا ما تكون مشربة بلغتها الأم، اللغة العربية.

تسعى المؤلفة في قصتها إلى رفع الستار عن شعب يكافح من أجل الخروج من عتمة الانحطاط إلى قمّة الازدهار. تعطي الأمل وتتذوّق الجمال. إنها قصة مشاركتها في نهضة شعب شجاع يريد الخلاص.

في كل مكان تذهب إليه، تجلب الكاتبة بهجة الحياة، وحتّى أنها تبعث من حين لآخر الابتسامة، على الرغم من اللحظات القاسية لبعض الأحداث والمواقف التي تصوّرها. كل شيء يتلألأ في كتاباتها مثل بلورات حبات الرمل التي تأسر القارئ وهو يتجوّل معها تحت أشعة الشمس الحارقة للصحراء الجزائرية.

جان كلود ميميريت

تمهيد

من على سطح منزلي، كان يتراءى لي الحي الشمالي لمدينة الأغواط متألقا، مغمورا في النور وبساتين النخيل التي تنبعث منها رائحة المسك والقرفة. للعلم أنّه، من بين جميع المدن الجزائرية، سُمّيت هذه المدينة، وبسبب موقعها في قلب خارطة البلاد؛ بوابة الصحراء. فبالإضافة إلى المساحات الرملية، توجد بها هضاب عالية وسهول مترامية الأطراف، مما سمح لها بالاستفادة من مجموعة متنوعة من المناخات. لهذا اختارها زوجي لكي نعيش فيها، مفضّلا إياها على مدن أخرى، فهي مناسبة تماما لتنفيذ مشاريعنا.

كان رضا، زوجي، يمارس مهنة جراحة الأسنان كما يقوم بتدريب الطلبة على هذه المهنة. بالنسبة لي، حصلت على وظيفة كمُقدّمة لبرنامج اجتماعي يُبثّ أسبوعيا في الإذاعة المحلية للأغواط. كرّست صوتي لبعث الأفكار التقدّمية التي كان ينادي بها البرلماني كريم بكرين. هذا الرجل، كريم بكرين، هو الذي أحدثَ تغييراً كبيرا في طريقة تفكيري. للأسف أنّه مات. لكن ذكرى تدخله في محطة الإذاعة المحلية في مدينة بشّار، من عشرين سنة مضت، استحوذت على قلبي وعقلي. في ذلك الحين، كنت أبلغ من العمر 22 عامًا فقط وكنت متعطشًة للتغيير، للتجديد وبصفة خاصّة للكرامة. في ذاك الزمن، كنت أعاني من الجانب الهمجي للتراث التقليدي الذي يحتقر المرأة. الأسوأ من ذاك أنني كنت أعتبر الموقف المستهين بالمرأة أمرا مفروغا منه ولا ينبغي مناقشته. غير أنّ مبادرة البرلماني علّمتني أن هذا الوضع ليس طبيعياً وأنه يمتصُّ غذاءه، بشكل رئيسي من جمود ومن سلبية الروح الجماعية لأفراد مجتمعي. لذلك قررت الكفاح من أجل التغيير والتقدم والتحرر، طبعا التحرر المُجدي وليس التفسّخ الأخلاقي.

لهذا السبب، صرت في كل مرة أجلس فيها على سطح منزلي، أتذكر عضو البرلمان ذاك، رحمه الله. وكذلك أتذكر شبابي، وطفولتي. أتذكر لحظات الألم والصراعات النفسية وأيضًا لحظات الهدوء والابتسامات. إلا أنه هذه المرة، كان مشهد قط يقفز من سطح إلى آخر سببا في إيقاظ ذكرى موجعة من أيام طفولتي.

كنت حينها في الثامنة من عمري. يتعلّق الأمر بقط اختطفته من صاحبه وصادَرَه أبي منّي ثمّ ألقا به من فوق جدار حديقة بيتنا.

دون أن أفهم سبب ذلك، فكرت على الفور في ابنتي أمينة، واسمها هو نفسه اسم والدتي. بدا لي أنّه من الضروري أن تعرف ابنتي أشياء عن قصة حياتي حتى تتمكن من مواصلة الكفاح من أجل التغيير. لذا، وبابتسامة عريضة، أمسكت بجهاز الحاسوب اللوحي

ومضيتُ في الكتابة: ...

الفصل 1

في تلك الجمعة، لم يتوقف المطر عن النزول إلى غاية منتصف الصبيحة. وبمجرد أن بدأت الغيوم تتلاشى وأشعة الشمس تبين، تسللتُ من منزلي وركضت للبحث عن جاري رضا، وهو في نفس عمري، ثمان سنوات. بدأنا على الفور نلعب في الممر الترابي الذي يفصل بين منزلَينا. بيوت قديمة من عهد الاحتلال الفرنسي، في حي خميستي، المدعو سابقا فرنان فيل، وهذا يتواجد في مدينة بئر الجير التي تبعد بتسعة كيلومترات عن مدينة وهران، أكبر مدينة شمال غرب الجزائر.

كانت مدينة بئر الجير في أوائل ربيع عام 1987، لا تزال عبارة عن قرية صغيرة، تكثر فيها الحقول والمساحات الزراعية. وبسبب النمو السكاني المتزايد والتنمية الصناعية، كنّا نشاهد تحوّل مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية إلى مواقع جديدة للتوسع العمراني وقيام الشركات والمؤسسات ذات الطراز المعماري الحديث.

كنّا متمتّعان بنشاط فائض، بسبب الجو اللطيف والهدوء الذي يعمّ المكان، نستنشق الرائحة المنعشة للتربة المبللة بماء المطر. رَسمْتُ شكل لعبة القفز على المربعات بقطعة من الخشب، ثم بدأت في القفز على قدم واحدة، وأنا أدفع حجرا في حجم قبضة اليد من مربع إلى آخر. توقفتُ في المربع الأخير، استدرت لبدء مرحلة العودة، وقبل أن ألقي بالحجر مرة أخرى، قبلته بحرارة ورفعت وجهي إلى السماء أدعو الله أن يقع الحجر في المربع المستهدف. حينها، كان رضا ينتظر دوره ويراقب مسار اللعبة بانتباه.

ما هي إلا لحظات وظهرت أمي أمينة عند الباب. كانت، رحمها الله، طويلة القامة، نحيفة، وذات بشرة موردة صافية. كانت ترتدي حينها بلوزة بلون السلمون وهذا فستان طويل من الطراز التقليدي الذي ترتديه النساء في غرب البلاد، يتميز بأكمام قصيرة فضفاضة، مزخرف بأشرطة من الدانتيل ومطرّز بخيوط ملونة وأسلاك، مبطن أسفله بقماش من نفس لونه ومثبت عند الخصر بحزام مزين بالماس الصناعي. كما كانت تربط رأسها بمنديل ملون ومطرّز بدقة وشعرها الكستنائي الطويل مجدول في ضفيرة واحدة انطلاقا من القفا.

كان يبدو على أمي الغضب والاستعجال. تقدّمَت ببضع خطوات، فتحت باب الحديقة، وجرّت أمامها عنزة تتبعها جديتيها وقد علا ثغاءهما. على الفور، أخذت أمي تؤنبني وأنا لاهية عنها، منغمسة في اللعبة. لقد نسيتُ مهمتي الأسبوعية يوم الجمعة، يوم الراحة المدرسية، وهي أخذ العنزة لترعى. ومع ذلك، تلقيت من والدتي قطعتين من الخبز الساخن الزكي الرائحة، لي ولصديقي.

انطلقتُ ورضا نركض في الدروب المتشعبة بين الحقول في محاذاة حيِّنا، ونحن مستمتعان باستنشاق الهواء النقي، أشعة الشمس المشرقة وقضْم خُبزنا. لم يكن يمنعنا هذا من التوغل في عمق المباني المشتتة في فوضى بسبب انتشار بناء العمارات وسط المساحات الزراعية. أصبحت ممارستنا تلك في الانحراف عن الاتجاه إلى مكان الرعي ممارسة لا غنى لنا عنها، مما سمح لنا، في ذاك الموسم، ونحن ننعم بتلقي الأشعة الدافئة لشمس آذار البديعة، من قطف بوادر ثمر التين. كانت أشجار التين حينذاك كثيرة وغير محاطة بسياج، بحيث يسهل قطف الثمار، فقط ينبغي الحذر من لدغ الدبابير التي يتزايد عددها هي الأخرى في فصل الربيع.

ونحن في تمام الرضا عن غنيمة قطفنا لثمار التين، نملأ جيوبنا ونسمح لأنفسنا بالانجراف بعيدا، نلاحق العنزة وهي تثب أحيانا

وتتقاعس أخرى إلى أن قادتنا إلى كوخ الرجل المعتوه المدعو؛ المجنون. وجدنا قدام مدخل كوخه كومة كبيرة من الخبز الجاف والأكلات التي كان يحضرها إليه الناس والمكوّنة أساسا من بقايا الطّعام الذي يفيض عن موائدهم. كان المجنون حينها في الداخل، وسمعناه يهمهم بأغنيته المألوفة، والتي أكسبته اسم المجنون، "قولوا لليلى أني قادم ... قولوا لليلى إنّي قادم ... قولوا لليلى أني قادم ...». شعرنا بالتسلية لطربه الحزين، لكننا في نفس الوقت تأسّفنا لحاله. لم تطاوعنا أنفسنا على أن نردّ عليه بمثل ما يرد به الآخرون على أغنيته كلما غنّاها وهم يتضاحكون: "لن تصل أبدا إلى ليلى ... لن تصل أبدا إلى ليلى ...». إلا أن الرجل أحس بوجودنا، فخرج من كوخه وطردنا. فررنا منه بأقصى سرعة ومن خلفنا العنزات تجري مهتاجة.

قطعنا المساحات الغير مأهولة على عجل، وسرنا نحو الحواجز التي تحيط برقعة فسيحة، تراكمت عليها أكوام من مواد البناء، في انتظار البدء في تشييد فندق فاخر. واصلنا مسيرنا بخطوات بطيئة، عبرنا إلى مواقع أخرى قريبة، كانت هي الأخرى في مرحلة الاستعداد لبدء البناء، ربما بناء مساكن اجتماعية أو حتى فيلات للإيجار. كنا نعلم ودون أن ننطق بذلك، أنه في غضون سنوات قليلة قادمة، لن نجد هناك مساحات خالية يمكننا الركض فيها بحرية. وبالطبع، لن يتيسر إلينا قطف ثمار التين ذات الرائحة الزكية النفاذة كما كنا نفعل. ثم كوخ المجنون، أكيد أنه سيختفي إلى الأبد وكذلك المجنون سيختفي معه.

وصلنا أخيرا إلى الطريق الوطني رقم 11 الذي يؤدي إلى مدينة وهران. قطعنا الطريق مسرعين، منقادين وراء اندفاع العنزة. عبرنا بعدها بقليل الطريق الوطني رقم 75، وسرنا في محاذاته مناوبين تارة الجري وأخرى المشي. بعد أكثر من ساعة، وصلنا أخيرا إلى شاطئ البحر والسعادة تغمرنا إلى أقصى حد. هناك توقفنا قليلا لنلعب، نقفز على الأمواج ونلتقط قنافذ البحر لننقلها من صخرة إلى أخرى، دون الإضرار بها. في ذاك الحين، كانت العنزة وبنتيها يرعين العشب، بالقرب من نبع الماء الساخن لعين فرانين، الذي كان في تلك الآونة خاليا من المصطافين والسائحين الذين يأتون للاستحمام هناك من أجل علاج الأمراض الجلدية المختلفة.

لم نتوقف عن تتبع تقدم العنزة، إلى أن وصلنا إلى الغابة الجميلة المجاورة؛ كَناسْتيل. وهناك أرخينا آذاننا لسماع زقزقة العصافير وحفيف الأوراق وأغصان الأشجار. كنا مهتمين أكثر بتأمل النباتات الصغيرة والزهور التي تحط عليها الحشرات الطائرة أكثر من مراقبتنا للعنزة. كنا نعرف أنه لا خوف عليها من أي شيء، فهي لن تجرؤ على الابتعاد عنا، كانت هي التي تراقب تنقلاتنا باستمرار. وهكذا، صرنا مجموعة موحدة، نستمتع بأفضال الطبيعة الأم، بكامل الهدوء. إلا أن هدوءنا ذاك لم يدم طويلا. سمعنا فجأة صوت طلقة نارية أوقفت جميع الأصوات الأخرى التي كانت آذاننا تلتقطها. ومع ذلك، لم نجزع. تبادلنا النظرات بهدوء بالغ وافترضنا أنه قد يكون ذاك هو السيد سيلفستر القناص. في هذا الحال، جلبنا العنزة بالقرب منّا وأسرعنا للصعود فوق شجرة للتحقق من دقة تخميننا. فعلا، كان ذلك هو الرجل المعني، طويل القامة، ذو هيئة رياضية. كان يرتدي قبعة وصدرية متعددة الجيوب، وفي اللحظة التي شاهدناه فيها من الأعلى، ظهر خنزير بري، على الأرجح. استهدفه القناص وأطلق رصاصة لم تصبه، تلاها بأخرى ثم ضاعف الطلقات، وكلها باءت بالفشل. أخيرا، يئس الرجل من فشله المتكرر، حمل البندقية على كتفه، أخرج علبة التبغ من جيبه، أخذ قرصة وحشرها في ورقة صغيرة رقيقة، لعقها بلسانه، جمعها في كويرة ووضعها تحت شفته السفلى، ثم مضى إلى حال سبيله. ركضنا نحوه، وصرنا نناديه بأعلى صوتنا. توقف أخيرا وانتظرنا بابتسامة مرحّبة.

سيلفستر شاب من أصل إسباني، كثير الشبه بالعرب، وسيم، أسود الشعر والعينين. كان ثريا جدا، فهو صاحب فندق كبير على بعد كيلومترين من قلعة سانتا كروز الواقعة في وهران، وهذه بناها الإسبان في القرن السادس عشر، أثناء احتلال المدينة. طبعا هو يقيم في فندقه، وإلى جانب ذلك، كان يملك كوخا صغيرا على شاطئ البحر في بئر الجير. كان يعيش بمفرده، منفصلا عن زوجته جينيسا من خمس سنوات، بسبب تعاطيه للكحول. وُلدت جينيسا في بئر الجير لأب إسباني وأم فرنسية، وعملت كممرضة في المركز الطبي المتواجد في البلدة.

كان سيلفستر كثيرا ما يأتي إلى كوخه، على أمل الالتقاء بجينيسا، حبيبته، التي يشتاق إليها كثيرا. ليس لذلك فحسب، بل هو يأتي أيضا من أجل ممارسة هوايتيه المفضلتين القنص والصيد. كان هذا الرجل مشهورا جدا في المدينة بسبب كوخه الذي يبدو أشبه ما يكون بمنزل أوروبي من العصور الوسطى. بناه أساسا من الحجر المشذب، المختلف الألوان. يقع تحت ظل شجرة صنوبر ضخمة، عند سفح تل رملي. جعل ذلك بعض المصطافين يقتربون منه بهدف التقاط صور تذكارية.

عندما بلغنا السيد سيلفستر، أخذتُ بزمام المبادرة وتحدثتُ أليه باللغة العربية، لأنه يفهم ويتحدث باللهجة الوهرانية. إضافة إلى ذلك، فهو يتمتع بعلاقات جيدة مع السكان المحليين رغم أن الجميع يتداولون في حقه شائعة كونه ينوي الذهاب إلى تونس قريبا، بهدف البحث عن والده البيولوجي. حيث أنه بالإضافة إلى لقبه، شقرون، الذي تحمله شخصيات معروفة في ذاك البلد، فلقد أخبرته والدته، قبل وفاتها، بأنهم عاشوا في تونس لبضع سنوات. لكن للأسف، لم تكشف له شيئا عن هوية والده.

وإذن، تحدثت إليه، أحثه على أن يفي بوعدٍ كان قد وعدنا به سالفاً:

–– سيد سيلفستر! هل أتيتنا بالصور التي وعدتَ أن تطلعنا عليها؟

–– أجل! ردَّ عليَّ، وهو يحدق من حولنا، ثمّ أضاف: وماذا عنكما؟ هل أحضرتما العنزة؟

أومأنا نعم برأسينا. قادنا بعدها إلى كوخه، على بُعد خطوات قليلة من الشاطئ وطلع علينا من الداخل بقط صغير أبيض يحمله على كفّه. تناولنا الحيوان اللطيف وأخذنا نداعبه، بينما عاد سيلفستر إلى الداخل وأخرج دلواً لحلب العنزة، وكذلك كتباً مُزوّدة برسومات بديعة، منها مناظر طبيعية ذات ألوان زاهية وصور لأمراء وأميرات وقصور مهيبة وأشكال لحيوانات أسطورية. صرنا نتطلّع إليها، منبهرين بالزخارف والألوان.

ظهر الحبور على القنّاص وبدى في غاية الانبساط، فجاء بكأس به شاي ساخن وأضاف إليه الحليب الذي أخذه من عنزتنا. صار يرتشف المزيج الغريب ويتحدث إلينا بصفة ودّية، قائلا:

–– الشاي مُضافاً إليه حليب الماعز والزنجبيل يُستخدم لخفض الوزن. صمتَ قليلاً، يتأمّلنا ونحن مندهشان لِما نراه منه. وبما أننا لم نتجاوب مع المعلومة القيّمة التي أفادنا بها، اعتقد أننا لم نفهم المعنى فأضاف: هذا يساعد على النّحافة... هل فهمتما؟ صمتَ من جديد ثم استأنفَ وبريق من الفضول يلمع في عينيه؛ ألا تريان أنني سمنتُ بعض الشيء في الآونة الأخيرة؟ وهنا رأى أيضا أننا لا نردّ عليه وأننا غير مبالين بما يردّده علينا من ألفاظ، فركّز بنظره على الكأس الذي بين يديه وهمهم؛ آه! هذا يذكّرني بشيء... شيء ما حدث لي في تونس، ولكنني لا أدري ما هو! بعد برهة أخذ ينظر إلينا ونحن لاهيان عنه تارة باللعب مع القط وأخرى بِتصفّح الكتيّبات. ابتسم سعيداً بانبساطنا وبدا له أن يستغلّ الفرصة ليأخذ منّي معلومات حول زوجته السابقة، فبادرني:

–– حادّة! اصغ إليّ! سكتَ برهة ليتأكّد أنّه نجح في جلب انتباهي ثمّ أضاف؛ أتحدّث إليك عن جينيسا... بلغني أنها سافرت إلى مارسيليا... هل عادت؟ غير أنني لم أخرج من استغراقي في اللعب مع القط، ومع ذلك لَويْت شفتي لأعبّر له عن جهلي بالموضوع، فكرّر على مسمعي في إصرار:

هل سبق لك أن رأيتها هنا على الشاطئ؟ ––

بقيت على حالي مشتّتة الذهن، ثم رججت برأسي لِأنفيَ ذلك. في تلك اللحظة كان رضا يقلّْب صفحات الكتيبات.

طرح عليَّ سيلفستر سؤاله مرة أخرى، وأجبته أخيرا:

–– أراها أحيانا في منزلنا، عندما تأتي لإعطاء الحقنة لوالدتي.

اقترب مني سيلفستر أكثر وهمس في أذني:

–– هل يمكنك إخبارها أنني آتي إلى كوخي كل يوم جمعة؟ انتظرَ تجاوبي مع مطلبه، ولمّا لم أجبه، استأنف: إذا تمكّنت من إحضارها إلىهنا يوم الجمعة، فسأعطيك هذا القطّ.

عند سماعنا أنا ورضا لاقتراحه ذاك، رفعنا إليه أعيننا في لحظة واحدة. انتابني تردّد. صرتُ أُحوّل نظري إلى الرجل تارة وإلى القط أخرى. نتيجة لذلك، انحنى سيلفستر وربّت على كتفي ليجعلني أقْبل. غير أنّني لم أتقبّل ملامسته لي، بل وانتابني الفزع منه. لقد سبق وأن حذّرتني أمي بأن لا أدع رجلا يلمسني. لذلك انطلقت في الصراخ، مستجدية العون من رضا. التقط هذا الأخير حجرا، ابتعد قليلا وأخذ يقذف به سيلفستر إلى أن أصابه في صدره. فقام سيلفستر يطارد رضا لمعاقبته. في تلك اللحظة، أخذت القطة وجريت. ركضنا كلانا وخلفنا ركضت العنزة مذعورة وخلفها صغيرتيها. أثارت مجموعتنا الهاربة سحابة من الغبار منعت الصياد من مواصلة اللحاق بنا. فتوقف وبدأ يشتمنا بكل ألوان السّباب الذي في جعبته باللغة الإسبانية.

ركضنا بكل ما نملك بقوة إلى حدّ الإرهاق. في منتصف الطريق، توقف رضا لالتقاط أنفاسه. جلسنا على الأرض، بينما واصلت العنزة والعنيزتان ركضهنّ إلى أن بلغن المنزل. حقا، لقد شعر الصبي بالتعب الشديد. عاد شاحب الوجه ويرتجف. لذلك، ومع أن القط كان بيدي، أراعيه، لكنّني شعرت بالقلق على صديقي وعملت على تهدئته:

–– ما بك يا رضا؟ هل خفت من صياد الخنازير؟

–– لا! لكن هذا الرجل شرّير! لن نعود إلى كوخه أبدا... وإذا آذاكِ مرة أخرى، فأنا سأضربه بسيفي هذا. التقط غصن شجر ولوّح به كسِلاح. نظرتُ إلى الوراء واطمأننتُ أنه لا أحد يلاحقنا. ساعدت رضا على الوقوف وواصلنا تقدمنا ببطء إلى منزلينا.

حينما بلغت المنزل، رأيت الشاحنة الصغيرة لوالدي متوقفة في الجوار. مشهد الشاحنة بعث في ارتعاشا سَرَى في كامل جسدي. علمت أنه لا يزال هناك. جفّت شفتاي من الجزع وعلى الرغم من جهدي لترطيبها باللعاب، كان لساني يعلق بين اللثة ودهليز الفم. كم كنت أخشى وجود والدي في تلك الساعة بالمنزل. وبمجرد دخولي من البوابة، وجدته في مواجهتي. كان ينتظرني عند مدخل الحديقة. كان والدي رحمه الله طويل القامة قوي ووسيم، على الرغم من عمره الذي تجاوز حينها اثنان وستون عاما. كان لا يرسل اللحية أيضا وليس له شارب، مما أضفى عليه مظهرا أكثر شبابا. وهو على الدوام يرتدي الزي الأزرق الداكن، طاقم شنغهاي. وفي ذلك الحين، كان يتأهّب للذهاب إلى العمل في مزرعته.

اقترب مني والدي، انتزع القط الصغير من بين يدي، ثم طوّح به بعيدا، من وراء السياج الذي يحيط بالحديقة. أمسك بعدها بأذني وسحبني إلى نباتات الفجل والخس التي سحقتها العنزة عند عودتها ووبّخني:

–– تتركين العنزة تعود لوحدها، وتعيث فسادا في الحديقة! أين كنت؟ رفع قبضة يده مغضبا وصاح في وجهي؛ طبعا... هذه هي التربية السيئة لأمّك!

انقبضت عضلات وجهي من الألم، بسبب فقدان القط أكثر منه بسبب قرصة أذني. وبمجرد ما ابتعد والدي، ركضت خلف السياج، كان القط ملقى على الطريق الترابي، بلا حراك. تخيلت بالفعل جثة القط الصغير وقد نهشت لحمه الكلاب التي أراها تمرّ في مجموعات من حين لآخر. ارتعشت لذلك الهاجس ثم عدت إلى المنزل، وحيدة وحزينة. كنت أعرف أنه لا يمكنني تحت أي ظرف من الظروف أن امتلك قطا أو أي حيوان آخر في منزلنا، باستثناء الحُملان حديثة الولادة اللائي تنفر منهم أمهاتهم في مزرعتنا. في هذا الحال، جميع أفراد الأسرة سيُجبَرون على رعايتهم وتغذيتهم عن طريق زجاجات الرضاعة.

الفصل 2

توقفت الحافلة في محطة بئر الجير. كانت هذه المحطة لا تتعدّى كونها أشبه ما بموقف سيارات صغير، تعلو كُتلا صخرية مسطحة، يحيط بها سياج من قضبان حديدية يفصلها عن المنحدر الذي يؤدي إلى البحر. نزلَت مريم من الحافلة، بعد نزول جميع الركّاب. كانت هذه إحدى أُختاي الأكبر مني سنّا، تبلغ من العمر أربعة عشر عاما. كانت جميلة، مديدة القامة، ذات بشرة فاتحة، تشبه والدتنا إلى حد بعيد.

عندما نزلت مريم من الحافلة، أخرَجت المئزر الذي ترتديه عادة أثناء عملها في مصنع فرز وتصنيف البرتقال، الواقع في مدينة وهران ووضعته على رأسها للحماية من المطر الذي بدأ في التساقط. كانت مهمومة جدّا إلى حدّ أنّها لم تكتَرث كعادتها بالمنظر الرائع الذي تعرضه الطبيعة. عبرَت الطريق المبلل والمهجور من المارّة بخطوات سريعة. مرّت بجوار الحقول حيث سنابل القمح تجاهد في مقاومتها للطبيعة القاسية وهي تئنّ تحت وطأة قطرات المطر المترادفة، وعلى حوافها بضعة أزهار الخشخاش التي تمزّقت بتلاتها وتساقطت جميعها بفعل المطر.

عند بلوغ مريم المنزل، ركلت بوابة الحديقة المغلقة بترباس مكسور، فسقط على الفور ثم عبرت على عجل المسار المرصوف بأعشاب ذابلة، وصعدت الدرجات الأربع ثم فتحت إحدى دفّتي الباب الرّئيسي، ودخلت مثل ثور هائج. اتّجهت مباشرة إلى المطبخ في الطابق الأرضي، حيث ألقت بحقيبتها ومئزرها أرضا ثم صعدت إلى الطابق العلوي، أين الغرفة التي تعيش فيها معنا أنا وأختنا الأخرى. وبمجرد دخولها إلى الغرفة انطلقت تفشي جام غيضها على عملها بالمصنع:

–– لن أعود أبدا للعمل في مصنع القمامة تلك!

اقتربت من النافذة في قاع الغرفة، فتحتها وأخذت تحدّق بعيدا في البحر وهو يبتلع بِنَهم قطرات المطر المتهاطلة عليه، ثم حوّلت عيناها إلى الحقول، بالقرب من مجموعة المنازل التي كان منزلنا يشكّل جزءا منها. ركّزت نظراتها على المزروعات التي كانت تنهار تحت المطر. صارت تسعى جاهدة في تهدئة نفسها، بدون فائدة. أغلقت بعدها النافذة بعصبية وانتقلت بانتباهها إلى الداخل، فلاحظت طبقا مليئا بالتين الناضج على منضدة سرير أختنا الكبرى زينب. هرعت إليه وابتلعت محتواه بشراهة.

بعد أن ملأت بطنها، وقفت طويلا أمام المرآة المثبتة على باب الخزانة، تأمّلت وجهها الذي وجدته جميلا باستثناء شحوب وانطباع بالحزن. بشرتها خالية من العيوب، عيناها بنيتا اللون، أنفها دقيق وغاية في الاستقامة. إلاّ أنّ شفتيها غليظتين بعض الشيء، ممّا أخلّ قليلا بتناغم تقاسيم وجهها، ولكن دون الإضرار بسحر جمالها. أما شعرها فكان قسطليا، حريري الملمس وطويل إلى حدّ الركبتين. كانت تعتبر هذا كسبا آخر يضفي إلى بهائها بهاءا أكبر. وبالعكس، فإنّ والدتنا، كانت ترى من الصفات الجميلة لشَعر ابنتها وخصوصا طوله مصدر إزعاج، كانت تدّعي أنه من شأنه أن يجذب إليها العين الشريرة والحسد وكذلك يتسبّب لها في غيرة بقية البنات وأكثر من هذا، يجعلها عرضة لمعاكسة وحتى اعتداء الشباب المنحرفين الذين يتسكعون في المحطة. وهكذا، ونتيجة لذلك، كان ينبغي على الابنة وبالضرورة، وبناءا على أمر من والدتنا، ألا تترك شعرها مسدولا، بل تلفّه على هيئة كرة خلف قفاها.

استمرت مريم في تأمل شكلها أمام المرآة. قامت بفك كعكة شعرها بحركة خفيفة وكم كانت بهجتها وهي تمعن النّظر إلى لُبدتها الغزيرة المسترسلة بكل فخر. إلا أنّ هذا لم يمنعها من الانزعاج من امتلاء شفتيها واتّساع جبينها. كان اتّساع جبينها هو الآخر يتسبب لها في مُناكفة إخوتها لها. لا عليه، فلقد وجدت طريقة لإصلاح العيب، أو بالأحرى تمويهه، وذلك بواسطة قصّ خصلة من شعرها وأسدالها على الجبين في شكل قُصّة.

تقدّمت مريم نحو المرآة أكثر وأكثر إلى أن كادت تلتصق بها، وذلك من أجل أن تتبيّن نتيئات نقاط الدهن السوداء على أنفها وخدّيها ثم انطلقت في العملية الدّقيقة للضغط على النتيئات، وسَحْب المحتويات السوداء بأظافرها. ولكنّها، بمجرد أن شعرت بالألم الذي أَبْتلَتْ به بشرتها، توقفت عن تلك العملية وذهبت لتلقي بجسدها على أقرب سرير، كان ذاك هو سريري، فسريرها كان على المرتبة العليا للسرير ذو الطابقين الذي تتقاسمه مع أختنا الكبرى زينب. اتكأت على الوسائد، رفعت قبضتي يديها وراحت تأنّب والدنا في خيالها:

–– ألا تخجل من نفسك؟ تبعثني إلى العمل بينما أنت تملك ما يكفي من المال! تلومني على رسوبي في شهادة الإعدادية؟ في الحقيقة، أنت لم تكن تنتظر إلاّ هذا! ألم يكن من المفروض عليك أن توظف مُدَرِّسا لمساعدتي من أجل النجاح؟

وبينما هي ترغي وتُزبد، كانت تتحرك في أرجاء الغرفة، تصطدم بالأسرة والطاولات والكراسي. أرجعت شعرها المُسدل خلف ظهرها واستغرقت في اللوم:

–– هل تريدني أن أكشف لك عن الإذلال الذي ُيلحقني به صاحبك، رئيس المصنع هذا... وببقية العاملات؟ هيه؟ لكنني أعلم أنك سوف لن تصدقني! ولهذا... لن أخبرك بشيء. ألقت بنفسها على السرير مرة أخرى واستمرّت ...ومع ذلك، لن أعود إلى هناك أبدا! ثم صرخت ناقمة عليه بشدّة؛ حتى ولو قتلتني! الموت أقل فظاعة لديّ من التعرض إلى المعاملة السيئة لذلك الرئيس البغيض.

توقف المطر عن السقوط. لكنّ مريم لم تزل مضطربة ومرهقة. ولكي تعمل على تهدئة نفسها، تناولت كتابا من أعلى الخزانة وبدأت تقرأ للمرة الثالثة، رواية "اللص والكلاب" للكاتب المصري نجيب محفوظ. كانت مولعة بقراءة الروايات والقصص، على الرغم من رسوبها في آخر سنة بالمستوى الإعدادي. لقد كان السبب في ذلك أنها كانت قليلا ما تراجع دروسها، بسبب الجو الأسري المضطرب. غير أنه مع هذا، ظلّت قادرة على تحيين الفرص وإيجاد الأوقات المناسبة لقراءة الكتب دون علم والدتنا. شغفها بهذا النوع من القراءة كان يميزها عنّا جميعا وعن وزملائها في المدرسة. وعندما كانت تزاول دراستها، كانت تتفوق عليهم جميعا في كل ما يتعلق باللسانيات. أمرها كان غريبا في هذا الشأن. عندما كانت تنغمس في القراءة، ينقطع لديها كل اتصال بالعالم المحيط. فلا تلتقط أذنها شيئا ولا حتى الصوت المُرعِد لوالدنا وهو يناديها. أمّا شأنها مع الدتنا، فهذه كانت تقف عاجزة أمام حالها ذاك، وتتأسّف لها حينما تفاجئها وهي تقرأ. لم تكن تعتبرها قادرة على تولّي دور ربة بيت معتبرة في المستقبل. فشلت كل محاولاتها في إقناعها بالإقلاع عن هذه العادة السيئة للقراءة، ولا حتى بوسائل الإهانات، العضّ بالأسنان، القرص المؤلم للفخذين والبطن. لكنّها في النهاية، توقفت عن هذا النوع من العقاب لمّا كبرت مريم وبلغت سن الرشد. بينما استمرت في وصفها بالصماء وفي بعض الأحيان، تنتزع الكتاب من بين يديها وترميه إلى أقصى بُعد ممكن، ثم تأمرها بالانصياع لأوامرها في أداء المُهمة الأمثل ألا وهي مُهمّة الكنس وغسل الصُّحون والطبخ.

في الواقع، كانت الدتنا تعاني من تعب مُزمِن وضيق في التنفس وارتفاع في ضغط الدم. بعد تشخيص الطبيب، اتضح أنّها مصابة بالفشل الكلوي. وبسبب حالتها المرضية تلك كانت تعتمد بشكل أساسي على بناتها للقيام بالأعمال المنزلية. غير أنّ مريم كانت تشتبه في أنّ والدتنا وكذلك والدنا يتآمران عليها. كانت مقتنعة تماما أنّهما يجبرانها على العمل من أجل الاستفادة من راتبها ومن أجل إعداد جهاز عرسها تحسّبا لزواج مُستقبلي. للأسف، لم تكن والدتنا تعلم أن القراءة كانت بالنسبة لأبنتها وسيلة مُهمّة للتغلب على مضايقاتها ومضايقات والدها. أجل، والدتنا لم تكن تعلم شيئا عن الخيول الجامحة، ذات الأجنحة القوية، المرفرفة، التي تغزو مخيلة ابنتها مريموتطيربها في عالم خال من الكنس والصحون المتسخة، عالم خال من صياح والدها وتعنيف والدتها. ترفرف بها في أجواء عالم ساحر. تحتمي به من التفكير في مأساتها اليومية التي لا يتوانى فيها مدير المعمل عن الاستغلال المهين لها، لا يكفّ عن ملاحظاته واتهاماته لها أنها بطيئة الحركة في الشغل وقليلة المردودية.

في الحقيقة، كان مدير العمل، البغيض ذاك يعامل بقية زميلاتها بقساوة أشدّ من تلك التي يعاملها بها. لقد كنّ في معظمهن مراهقات في مثل سنّها، لكنّهن من الطبقة الفقيرة وأقل جمالا بكثير منها. مريم لم تكن فقيرة ولكنّها لا تجرؤ على الادعاء بغير ذلك. كم كانت كلمة فقير تثير اشمئزازها، تقيّدها، بل تخيفها. إلا أنها كانت تعتقد جازمة بأنّ وجهها الصبوح، لا يمكن إلا أن يهيئ لها مستقبلا زاهرا، مثل ذلك الذي تنعم به كل أميرة جميلة وغنية. في رأسها، كانت مصمّمة على عدم السماح لنفسها بأن تصبح فقيرة، لأنها كانت جميلة جدا، إذن فهي غنية بالفعل بشيء ما. يجب أن تكون أناقتها أداة ثروتها. ببساطة، يجب أن يكون جمالها بمثابة أداة لتسهيل اندماجها في أي مجال من شأنه أن يجعل منها مليونيرة.

استسلمت مريم للنعاس بعد مطالعتها لبضع صفحات. لم تستيقظ إلى أن دخلتُ أنا الغرفة فجأة. كنتُ أحملُ في طرف ثوبي حفنة من اللوز الأخضر. في نفس اللحظة، لحقت بي شقيقتنا زينب وهي تحمل حقيبة مريم ومئزرها اللذان وجدتهما مُلقيان في المطبخ. كانت زينب تبلغ حينها السابعة والعشرون من العمر، قصيرة القامة، مكتنزة جدّا على مستوى الوجه والحوض، فاحمة الشعر، سوداء العيون ممّا يضفي على بشرتها الفاتحة المزيد من النّورانية. عادة ما ترتدي الفساتين الطويلة، ذات الأكمام القصيرة مثلما ترتدي والدتنا، كان هذا يجعلها تبدو أكبر سنّا وكأنها ربّة بيت وأمّ لعيال. بالفعل، فإن زينب هي التي تتحمل في الغالب القسط الأكبر من الشُّغل بالمنزل، وهذا منذ صغرها، فهي لم ترتاد المدرسة إلاّ لسنة واحدة فقط. لقد انغمست في الخدمة المنزلية إلى أن عادت في معظم الأوقات تُهمل الاعتناء بنفسها. كانت مهتمّة أكثر بالعناية بأفراد الأسرة. في هذا الحال، فهي بمجرد دخولها إلى غرفتنا، والتي كانت غرفتها هي أيضا، أخذت توبّخُني وقد رأتني أنقل اللوز من طرف ثوبي وأضعه في الطبق الفارغ الذي كان يحتوي على التين:

–– تسلّقتِ الشجر مرة أخرى؟ ألم تمنعكِ أمي من فعل ذلك؟

لم أردّ بكلمة على توبيخ أختي الكبرى لي. جلستُ على حافة سريري وأخذت الكتاب الذي وضعَته مريم جانبا عندما نامت. صرت أقلّب الصفحات التي لم تكن تحتوي على صور توضيحية عدا رسومات قليلة وغير ملونة. جلستُ بعدها على البلاط، اتكأتُ على عمود السرير. عاد إلي ذهني مشهد القط الصغير مستلقيا على الأرض وهو دون حراك في تلك الصبيحة. جلست زينب على سريرها، أي الطابق السفلي ووضعت الحقيبة والمئزر اللذان وجدتهما مرميان في المطبخ على الطابق العلوي المُعدّ لمريم. لقد فهمَت للوهلة الأولى أن أختها مريم متأذّية، وبمجرد أن استيقظت هذه الأخيرة، حاولت أن تفرج كربتها:

–– ما رأيك لو نخرج إلى النبع، نتمشى قليلا هذه الليلة؟ ...ونأخذ معنا الطفلين حادّة وإسماعيل والعنزة؟

–– الليلة؟ منذ متى كنّا نخرج ليلا؟ ردّت عليها مريم ثائرة. واصلت بعدها بنبرة احتجاج: وماذا عن أعمال التنظيف والطهي؟ وأمنا...! هل ستسمح لنا حقا بالخروج إلى النبع ليلا؟

–– لا تهتمي لذلك! ردّت عليها زينب، محاولة طمأنتها، ثمّ أضافت: نأخذها معنا.

–– نعم؟ صاحت مريم، وهي تعتدل في جلستها، منزعجة: نأخذها معنا؟ هل تتحدثين عن أمي! ... تلك العاشقة لِخدمة المنزل والمفوِّرة للدم؟

بعد أن عبّرت مريم عن حنقها قامت من على السرير فَحَلَلْتُ محلّها مباشرة. لم أكن أبالي بالحوار المشدود المُتبادل بينها وبين زينب. كلّ انتباهي كان مُنصبّا على الكتاب. في هذه الأثناء، واصلَت مريم، وهي لا تزال تغلي من شدّة الغضب، ثائرة في وجه زينب:

–– أنت تعرفين جيدا ما ستقوله أمّنا لو عرضتِ عليها رغبتك هذه! ستقول إنها تعاني من صداع ... أنها تعاني من... صعوبة في التنفس ... أن قدميها منتفختين وما إلى ذلك...

ببالغ من الأسف، صارت زينب تفكّر في طريقة لتهدئة مريم. بينما أنا، استفدت من الصمت الذي ساد بينهما في تلك اللحظة، وضعتُ الكتاب جانبا وخاطبت شقيقتي الكبرى بصوت خافت:

–– زينب! هل يمكن لقط صغير أن يتعافى لو ألقاه أحدا من وراء جدار عال مثل السور الذي يحيط بحديقتنا؟

تفحصتني شقيقتاي بدهشة، بينما كانت نظراتي مركزة بانتباه كبير على الكبرى، في انتظار إجابة منها. اقتربت منّي زينب وجلست بجانبي. بينما اتّجهت مريم إلى النافذة، فتحتها واتكأت على الإطار، وأخذت تتابع المشهد الذي يتمّ ببيني وبين زينب. شعرت زينب بحزني، حضنتني بمودة، وأجابت بهدوء لكن بصراحة:

–– لا أعتقد أن قطا ألقي من وراء سور الحديقة يمكنه أن يتعافى!

–– لا! رددت عليها بٍحدة. أتذكر ذات مرة، عندما قطع إسماعيل ذيل سحلية الجدار بعصا، رأيتها في وقت لاحق وقد نما لها ذيل جديد بدلا من الذي تم قطعه... رأيته بأم عيني! أنا أعرف تلك السحلية، هي تعيش في مكان غير بعيد عن بيتنا!

–– حسنا! أكّدت زينب على كلامي بلباقة. ثمّ أضافت: لكنني لا أعتقد أن القط لديه نفس القدرة على تجديد الأعضاء مثل السحلية.

في محاولة للتخفيف عنّا، أنا ومريم، أسرعت زينب إلى باب الغرفة، أغلقته، ثم أحضرت على الفور مسجل الكاسيت، الذي كانت تحتفظ به تحت المنضدة، وهمست إلينا:

–– هيا نستمع لهذه الأغنية الجديدة للشاب غانم.

بالكاد استمعَت مريم إلى اسم المغني حتى أبدَت تذمّرها. اقتربت من زينب التي كانت على وشك دمج الشريط في مشغل الجهاز الصوتي وتوسّلت إليها:

–– من فضلك، أنت تعرفين ذوقي الموسيقي جيدا!

–– فهمت! أجابت زينب.

أزالت الفتاة الكاسيت الأول واستبدلته بآخر. صدحت نغمات ساحرة لموسيقى مصرية من النوع الذي يتصف بإيقاع يشدّ إليه السمع ويبعث على الرغبة في الرقص. تبدّل الجو الحزين إلى فرح على الفور وأمسكت كل من الفتاتين بوشاح من خزانة الملابس، ربطته على وركيها وانطلقت بسعادة في رقصة شرقية. بالنسبة لي، جلستُ القرفصاء على سريري واكتفيتُ بمراقبة تحركات أختاي. بعد بضع دقائق، سمعنا قرقعة على مقبض الباب، ثم طرق أحدهم. أوقفت زينب الشريط، فكّت الوشاح وذهبت لفتح الباب. كان ذاك إسماعيل، شقيقنا الصغير، البالغ من العمر خمس سنوات، معروف بالطفل الذي لا يتوقف عن الحركة إلا عندما يحمل في يديه حيوانا صغيرا، ولهذا لقبته أمنا بالعفريت.

جاء العفريت إذن بناءا على أمر من أمّنا ليطلب منا النزول. كان الوقت عشاء. علما أن أفراد عائلتنا لا نأكل سوية. كانت طريقتنا في تناول الطعام مختلفة عن العائلات الأخرى. كنّا نحن الفتيات نأكل مع والدتنا في المطبخ مع إسماعيل الصغير الذي يجلس غير بعيد عنا. أما بالنسبة للأب، فقد كان يحتل الصالون، دائما أمام التلفزيون، يتابع الأخبار اليومية أثناء تناوله للطعام. الولدان الكبيران هما أيضا في الصالون، لكنهما مفصولان عن الأب بستار لا يمنعهما من متابعة برامج التلفزيون إن رغبا في ذلك.

نظام الأكل هذا، كان يتطلب من شقيقتي تقديم وجبات الطعام لكل مجموعة، على صينية منفصلة. ثم يجب عليهما جمع الصواني والصحون الفارغة في نهاية الوجبة. لحسن الحظ، فإن أفراد كل مجموعة يأكلون في طبق واحد كبير، على الرغم من أن إسماعيل ووالدنا كان لكل منهما طبقه الخاص. وهذا من شأنه أن يقلل من عدد الأطباق المراد غسلها.

الفصل 3

بعد مُطاردة سيلفستر لنا، أصبح رفيقي رضا طريح الفراش لبضعة أيام. كان الصبي يعاني من مشكلة طفيفة في القلب منذ ولادته. زرته في نهاية الأسبوع وأحضرت له بعض السلاحف الصغيرة في جيبي. طلب مني إحضار القط، لكن لم يكن لدي الشجاعة لأخبره أنه مات. سلّمته السلاحف التي تحوّل لونها إلى الأسود والأزرق بسبب الاختناق في جيبي، وخرجتُ دون أن أقول له شيئا. بمجرد خروجي توقفتُ على بعد خطوات قليلة من جدار السياج المحيط بحديقة منزلي وصرت أراقب الطريق الترابي الذي كان يسير به شخصان مسنّان وهما يتحدثان بصوت عال. انتظرتُ مرورهما، لاحقتهما بنظراتي حتى اختفيا. ساد صمت مهيب سمح لي بالاستماع بشكل أفضل إلى همس الحشرات وحفيف الريح الخافت الذي حرك شعري القصير الممشّط بشكل فوضوي. التقطت أنفاسي بعمق وسرت ببطء نحو منزلي. دفعت البوابة، وتوقفت ألاحظ لعدة دقائق جدران المنزل، نصفها مغطى بنبات اللبلاب وأزهاره البنفسجية والمرقّطة. شعرتُ بالوحدة. دخلت أخيرا إلى البيت وتوقفت مرة أخرى في الرواق المزين برفوف خشبية على مستوى الجدار، والذي ترتّبَت عليها تماثيل نصفية لنساء ذوات جمال رائع وطيور مصنوعة بالجص، كذلك باقات من الأقحوان الأبيض صنعتها زينب من القماش. يوجد أيضا عند المدخل، في مواجهة الباب تمثال بالحجم الطبيعي للبؤة، فمها مفتوح وعلى أُهبة للانقضاض على فريستها.

تقدّمتُ إلى داخل الصالون. كان إخوتي وأخواتي كلهم مجتمعين هناك ولم ينتبه أحد لدخولي. كانوا يتعرّضون للتوبيخ من قِبل والدنا وهم واجمون صامتون، بينما والدي يرغي ويزبد. كان صياحه قد غطّى على كل صوت آخر أو حركة. من شدّة خوفي من صريخه اندفعت إلى الوراء. تحرّك مٌنير، وهو أكبر إخوتي الذكور، يبلغ من العمر 25 سنة، مطأطئا برأسه إلى أن بلغ حيث يقف والدي، متمنيا أن يمتصّ غضبه ويحمي الآخرين. لكن والدي لم ينخدع، كان من الواضح أنه يريد معاقبة الجميع. انضمت الفتاتان، مريم وزينب، جنبا إلى جنب. كان أحمد، الولد الآخر، البالغ من العمر 16 سنة، يقف على مسافة قصيرة من مُنير. أما إسماعيل فقد تراجع هو الآخر إلى الوراء، واتّكأ برأسه على كتفي. كان أبي يلقي باللوم على الولدان الكبيران بشدّة:

–– الوحوش! أنتما لا توليان اهتماما بالأداء الصحيح للمعدات! وبالضرورة... وكل يوم ... يجب أن أكون هناك لأراقب العمل في المزرعة! وإلاّ، كل شيء سيضيع! لاحظ والدي حينها ظهور الخوف على وجه والدتنا. اقترب منها وواصل تأنيبه بصوت مُرعد: يوميا! لا بدّ لي من إخطار ابنيك هاذين، وأشار إلى منير وأحمد، أن السواقي تحتاج إلى ترميم، وأن المساحات الغير مُستغَّلة بشكل صحيح ينبغي مراجعتها، وأنّ الحوض الفلاني صغير جدا، وأنّ... أخذت نبرة صوته ترتفع بشكل أعلى وأعلى إلى أن أخذ اللعاب يتدفّق من على زوايا شفتيه. التفت إلى الولدان وصرخ في وجهيهما: يجب صيانة الجَرّار قبل أن تقع علينا مصيبة عطله، وإلا سيكلفنا إصلاحه غاليا!غاليا! يا فصيلة الكلاب أنتما! أصابه التعب أخيرا من شدّة الصراخ فصمتَ وذهب بعدها للجلوس على مرتبة في الصالون، الشيء الذي سمح لنا بالتفرق. أحضرت له أمي فنجانا من القهوة فدفعه بعيدا بعصبية، انسكبت القهوة وقذف بالفنجان بعيدا على البساط. ومع ذلك، فإنّ أمي لم تفقد صبرها وبكل شجاعة جاءت بالقرب منه، جلست قُبالته على مرتبة أخرى وحاولت التحدث إليه:

–– اهدأ يا مالك! أبناؤك لا يفعلون إلاّ ما هو بوسعهم فعله. المزرعة كبيرة جدا وليس لديهم المعرفة والخبرة للقيام بعمل أفضل!

لكن والدي لم يزل يغلي من الغضب، وقف وتقدم ناحيتها ثمّ انحنى عليها بجسده كله، كما لو كان يريد سحقها، ثم بصق في وجهها:

–– إنهم مثلكِ تماما! أطفالك هؤلاء! ... مرضى وانهزاميون!

وقف بعدها ومشى اتّجاه الباب ينوي الخروج. لكن قبل المغادرة، توقف للحظة وقال لها مشيرا إليها بأصبعه مُتّهما إياها: لقد أنجبت لي أعداءا وليس أبناء! ... على ما يبدو، أنتِ اتفقت معهم على تدمير كل ما بنيته.

انتظرت أمي إلى أن ابتعد أبي ثم وقفت مرتجفة وسألته بلطف كبير:

–– ماذا حدث في المزرعة اليوم وجعلك غاضبا هكذا؟ ... مهما كان السبب، كل شيء يمكن إصلاحه! ... أنت تؤذي نفسك بالغضب، احترس من داء السكري يا مالك!

نظر إليها بتركيز، احمرّ وجهه، وصرخ في وجهها مهددا:

–– تودّين لو أصاب بمرض السكري؟ أنتِ! أنتِ يا ذات الكِلى التّالفة؟ ... يا لها من مصيبة يوم تزوجتك!

أظلم وجه أمي. غادرت الصالون على عجل. لكنها، ما إن ذهب والدي حتى عادت إلى الصالون وبيدها مبخرة تلوّح بها من حولها. انتشر دخان البخور المعطر في كل مكان. كانت مريم تنظر إليها وهي مبتسمة ساخرة من فعلتها تلك، ثم لاحظت لها:

–– بخورك هذا لن يفيد في شيء! كان يجب عليك أن تفكري في الطلاق منه قبل أن تأتي بنا إلى هذه الدنيا!

استمرت والدتي في تبخير المنزل دون أن تعير اهتماما إلى ما كانت تتفوّه به ابنتها. غادرت مريم المكان إلى الحديقة، حيث وجدت أحمد جالسا على العشب فجلست بجانبه. بدأ كلاهما في تفريغ شحنة غضبهما عن طريق التحدث. بدا أحمد، الذي كان يكبر مريم بعامين، أطول منها بكثير، عضلاته متطورة بعض الشيء وقد نما له شارب خفيف. نهضت مريم وتمشت في الحديقة ثم عادت وهي تتمتم:

–– والدي هذا كالموت. إنه يزرع الرعب في داخلي. أفكر في وضع السم له في الطعام.

–– لا! صاح أحمد محتجّا: هذا عمل لاإنساني أن يُقتل شخص هكذا، أفكّر في طعنه.

–– أتعتقد أن طعنه أكثر إنسانية من تسميمه؟ أضافت مريم متسائلة.

واصل المراهقان التفكير في أنسب طريقة لقتل والدهما. لكن صوت هذا الأخير وهو ينادي على مريم، قطع عليهما التحاور. صمتا في الحال. ركضت مريم، متوترة، للمثول بين يديه، بينما هرع أحمد إلى البئر ونزل إلى القاع متمسّكا بحبل، ليختبئ هناك.

كان والدي قد عاد إلى الصالون واستأنف زعيقه. كنت في الصالون مع إسماعيل وهربنا من أمامه حينما رأيناه، لكنه انتبه إلينا هو الآخر وأظهر استياءه بعضّه على شفتيه. هَرَعت مريم إليه وهي في غاية الاضطراب. صرخ في وجهها بقوة جعلتها تقفز من محلّها وتكاد تقع من طولها:

–– أين كنتِ؟ أنا أناديك من ساعة! هيّا! قولي، ما هي قصة غيابك في العمل بالمصنع؟ لقد تلقيت تحذيرا من رئيسك في العمل!

جَفلت مريم واحمرّ وجهها، وفي تلك اللحظة، خَرجت والدتي من المطبخ وصينية القهوة بين يديها. كانت على علم بالمضايقات التي تتعرض لها ابنتها في العمل. أرادت بشدة إنقاذها ولو أنّها تَعلم جيدا أن زوجها لن يصدقها أبدا إذا ما هي تعهدت بإخباره. ومع ذلك، حاولت على الفور اغتنام فرصة هذه المواجهة والوفاء بواجبها في دعم ابنتها. لذلك خططت لإقناعه قبل إبلاغه. تظاهرت بالصفاء في البداية، ثم قالت له متلعثمة:

–– تفضّل القهوة يا مالك! ... لمّا تجاهل اقتراحها في شرب القهوة، شرعت في إظهار اهتمامها بعمله فسـألته بلطف؛ كيف تسير الأمور في المزرعة؟

أجابها بازدراء:

–– منذ متى تهتمّين بالمزرعة؟ ثمّ... من غير هذا... أنا في مواجهة مشكلة أخرى... ابنتك... هذه! وأشار إلى مريم؛ الآنسة ترفض الذهاب إلى العمل. وزيادة على ذلك...أخذ يبحث عني وعن إسماعيل بنظره، وأضاف: هذان الاثنان يعادياني، يهربان من أمامي كلّما لقياني. أنت قلبتِ الجميع ضدي!

–– لا يا مالك! ردّت عليه أمي معارضة اتهامه لنا بالعداوة. أطفالك ليس لديهم أي عداء اتّجاهك، لكنهم يخشونك. ما إن تمكنت أمي من قولها هذا حتّى أحسّت بصعوبة في التنفس، كانت تودّ لو توضّح له بصراحة ما تَعنيه. تخيلت زوجها أمامها حينذاك كوحش مخيف. إلا أنها فكرت في مصيبة مريم وصرّحت بعدها بصعوبة: أنت شديد معهم.

بدا على والدي الذهول ممّا ألحقته به. كرّر ما قالته بنفس صيغتها:

–– أنا شديد معهم؟

أومأت والدتي برأسها للتأكيد، وفي داخلها، كانت تشعر بحاجز قوي يمنعها من التحدث عن مشكلة ابنتها. لكنّها حاولت على الرغم من ذلك أن تبدي لزوجها رأيها في شدّته:

–– أنت تُحمّلهم الكثير من العناء في الشغل بالمزرعة وفي الإسطبل... هذا يقودهم إلى الفشل في الدّراسة ويضر بصحتهم. لم يعودوا يعرفون كيف يحققون التوازن بين المدرسة والشغل.

من جديد حدّق إليها والدي بازدراء رافضا وجهة نظرها:

–– أنتِ مجنونة وجاهلة! لا تفهمين شيئا عن الحياة، إنه الحَزم الذي يجعلهم رجالا حقيقيين! ... لوى شفتيه وتغضّن خدّاه معبّرا عن خيبة أمله. وتابع: يا للأسف! إنهم مثلك تماما ... ذو عزيمة واهية. تنفّس الصعداء من الانزعاج وتلفّظَ: ولكن ما العمل؟ أنت تكرّرين عليهم نفس التربية التي تلقيتها من والدك...والدك... الذي عاش محكوما عليه بالفشل والتفاهة.

صمتت والدتي مروعة من الإهانة التي ألحقها بها زوجها، ولكنها بعد بضع لحظات، استعادت ثقتها بنفسها ودافعت عن كرامتها:

–– كيف تجرؤ على التحدث بهذا الشكل عن رجل لم يعد من هذا العالم؟ كان والدي رحمه الله، ودودا، وكريما ... كان متواضعا وقانعا بكسب عيشه من عرق جبينه!

كانت هذه هي المرة الأولى التي يرتفع فيها صوت والدتي أمام والدي. في هذه الأثناء، كنّا نحن الأبناء نتتبع ما يصير بين والدينا ونحن مصطفون خلف باب المطبخ ومن أعلى درابزين الدرج. بدا أحمد فخورا جدا بسبب رد فعل والدتنا الشجاع، في الحين أنّ مُنير وزينب كانا هلعين يتوقعان ما لا تحمد عقباه. أمّا مريم التي كانت عند فوهة المدفع وهي تقف بالقرب من الوالدين المتصارعين فقد عايشت الكارثة على المباشر. مع ذلك، تظاهر والدي بأنه لم يتأثر بمعارضة والدتنا له، لأنه افترض أننا كنّا نتجسس عليهما. لذلك أجبر نفسه على إظهار اللامبالاة بما كانت تقوله زوجته، بل هاجمها ببرود:

–– قلت لك يا امرأة! أطفالك محكوم عليهم بالفشل، مثلك ... ومثل والدك! بالمناسبة ... والدك ذاك الذي عاش ضئيلا ... بلا جدوى منه!

تحسُّبا للعاقبة السيئة ولدرء الخطر، عملت والدتي على كبح جماح غضبها بأن لا تعبر عن حقيقة ما تشعر به. ارتأت أن تجيب بما يجنّب أطفالها الأذى. فكّرت في أن تجري مع زوجها مناقشة سلمية. لكن الغريب أنها فشلت في الامتناع عن بثّ حقيقة لوعتها. فجأة اتخذ ردّها منعطفا آخر. تمردت عليه كما لو كانت مستفزة من تلميحات شيطانية:

–– تقول أطفالي! وماذا تعرف عن أطفالي، باستثناء الصورة والاسم؟ في الواقع، إن نهمك في الحصاد واستجابتك للإغراء المفرط في الربح قد صرفك عن أي مهمّة أخرى، عن واجبك كأب ... وحتى عن واجبك كمشرف عن العاملين لديك ...

قاطعها عابسا، متغضّن الجبين:

–– ماذا؟

–– نعم! أكّدت والدتي دون الالتفات إلى دهشته. عقدت حينها العزم على التنديد بسلوكه السيئ مع كل من هم حوله. واصلت: لم نسمعك أبدا تقول أنّك راض عنهم، مع أنهم يبذلون كل جهد في العمل بأرضك ... أخذت نفسا وتابعت أقوالها: ينبغي عليك بالأحرى أن تُشغّل رجالا آليين، فهؤلاء لا يتعبون، لا يُخطئون، لا يتأذّون ولا يموتون!

نظر إليها بنظرة حائرة. اقترب منها، عازما على صفعها. تراجعت دون خوف واضح منه. لذلك، فنحن الأبناء الذين كنّا مختبئين حتى تلك اللحظة، خرجنا من مخبئنا. اقترب مُنير أولا من والدي، ثم لحق به أحمد. تشبثتُ أنا وإسماعيل بفستان أختنا الكبرى. ذهل والدنا، وتفحّصنا جميعا وقد لاحظ أننا اتّخذنا موقفا مُضادّا له، ثم التفت إلى زوجته وصار يزجرها:

–– اخرسي!يا مصدر المِحن والبؤس!

أمّا والدتي، وبتشجِيع من حضور أبنائها ووقوفهم إلى صفّها، حاولت مرة أخرى أن تبدو قوية. وطبعا، لم تستطع كبح جماح رغبة ملحة لديها في إعلان تعاستها معه، في التعبير عن مشاعرها البائسة:

––